الأدلة الشرعية على تكفل الله عز وجل
بحفظ القرآن الكريم
السؤال:
ما هي الأدلة على حفظ القرآن الكريم ، وهل قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون ) قال فيه بعض المفسرين : إن المحفوظ هو محمد صلى
الله عليه وسلم ، وليس القرآن الكريم ؟
الجواب :
الحمد لله
الأدلة الواردة في القرآن الكريم التي تدل حفظه من الضياع أو الزيادة
والنقصان هي :
1- قوله تعالى : (
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر/9.
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
" ( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ ) وهو القرآن ( وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ )
قال : وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه ، أو ينقص منه
ما هو منه
من أحكامه وحدوده وفرائضه ، والهاء في قوله : ( لَهُ ) من ذكر الذكر .
وبنحو الذي
قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
عن قتادة : ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال : حفظه الله من أن يزيد فيه
الشيطان
باطلا ، أو
ينقص منه حقا .
وقيل : الهاء في قوله ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) من ذكر محمد صلى الله
عليه
وسلم ، بمعنى: وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه
" انتهى باختصار.
" جامع البيان " (17/68)
والمعنى الأول هو الصحيح المناسب للسياق ، فقد جاء في الآيات التي قبل هذه
الآية
قوله تعالى : (
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ
لَمَجْنُونٌ .
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ .
مَا
نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا
مُنْظَرِينَ )
الحجر/6-8.
فالذكر المقصود بالآيات هو الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك
هو القرآن
الكريم .
ولذلك قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
"
المعنى الأول أَوْلى ، وهو ظاهر السياق " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (4/527)
2-
يقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا
جَاءَهُمْ
وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ
وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فصلت/41-42.
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
"
قوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) يقول تعالى ذكره
: وإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له
تبديلا أو
تحريفا أو تغييرا ، من إنسي وجني وشيطان مارد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
(
لَا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
) معناه : لا يستطيع ذو باطل تغييره بكيده ، وتبديل شيء من معانيه عما هو
به ، وذلك
هو الإتيان من بين يديه ، ولا إلحاق ما ليس منه فيه ، وذلك إتيانه من خلفه .
عن قتادة : الباطل : إبليس ، لا يستطيع أن ينقص منه حقا ، ولا يزيد فيه
باطلا "
انتهى باختصار وتصرف.
" جامع البيان " (21/479)
3-
ويقول الله عز وجل : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ
لَا
مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا )
الكهف/27.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
"
يقول تعالى آمرًا رسوله عليه الصلاة والسلام بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه
إلى
الناس: ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) أي : لا مغير لها ، ولا محرِّف ،
ولا مؤوّل
" انتهى.
"
تفسير القرآن العظيم " (5/151)
ويقول العلامة السعدي رحمه الله :
"
أي
: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها ، وتصديق أخباره ، وامتثال
أوامره
ونواهيه ، فإنه الكتاب الجليل ، الذي لا مبدل لكلماته ، أي : لا تغير ولا
تبدل
لصدقها وعدلها ، وبلوغها من الحسن فوق كل غاية ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا )
فلتمامها استحال عليها التغيير والتبديل ، فلو كانت ناقصة لعرض لها ذلك أو
شيء منه
، وفي هذا تعظيم للقرآن ، وفي ضمنه الترغيب على الإقبال عليه " انتهى.
"
تيسير الكريم الرحمن " (ص/479)
4-
ويقول سبحانه وتعالى : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ
وَلَا
تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ . بَلْ هُوَ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ
بِآيَاتِنَا
إِلَّا الظَّالِمُونَ ) العنكبوت/48-49.
دلت
الآية الثانية على أن القرآن الكريم محفوظ في صدور العلماء ، وهو خبر من
الله عز
وجل ، وخبر الله لا يمكن أن يتخلف في زمان ولا في مكان .
5-
ويقول جل وعلا : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ .
لَأَخَذْنَا
مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا
مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) الحاقة/44-47.
وإذا كان هذا الوعيد في حق سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف هو
حال من
يسعى في تحريف كتاب الله والتقول على الله فيه ما لم يقله ، وبهذا القياس
يمكن
الاستدلال بهذه الآية على أنه لا يستطيع بشر أن يزيد أو ينقص من كتاب الله
شيئا ،
فالعقوبة العاجلة له بالمرصاد.
عن
نافع ، قال :
خطب
الحجاج ، فقال : إن ابن الزبير يبدل كلام الله تعالى .
قال
: فقال ابن عمر رضي الله عنهما : كذب الحجاج ؛ إن ابن الزبير لا يبدل كلام
الله
تعالى ولا يستطيع ذلك .
رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " (1/596) بسند صحيح .
6-
وقد وصف الله عز وجل هذا القرآن بعلو جانبه ، ورفعة منزلته ، وعظيم مكانته ،
وهذه
الأوصاف كلها أوصاف حق وصدق ، يمكن الاستدلال بها على حفظ القرآن من
التغيير
والتبديل ، لأن تحقق هذه الأوصاف لا يكتمل إلا بحفظ القرآن وبقائه .
يقول الله عز وجل : ( حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ
لَدَيْنَا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف/1-3.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
"
قوله تعالى: ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
) بين
شرفه في الملأ الأعلى ، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض ، فقال تعالى : (
وإنه ) أي
: القرآن ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) أي : اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس ،
ومجاهد ،
( لدينا ) أي : عندنا ، قاله قتادة وغيره ، ( لعلي ) أي : ذو مكانة عظيمة
وشرف وفضل
، قاله قتادة ( حكيم ) أي : محكم بريء من اللبس والزيغ . وهذا كله تنبيه
على شرفه
وفضله ، كما قال : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ .
لا
يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ . تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
الواقعة/77-80. وقال : ( كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
. فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ . مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ .
كِرَامٍ
بَرَرَةٍ ) عبس/11-16" انتهى.
"
تفسير القرآن العظيم " (7/218)
8-
وقوله عز وجل : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ
)
البقرة/2. ينفي عن القرآن الكريم كل ريب وشك ، والتغيير والتحريف من أعظم
الريب
المنفي الذي يستحق النفي .
9-
عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : ( أَلَا إِنَّ
رَبِّي
أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي
هَذَا :
....إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ ، وَأَنْزَلْتُ
عَلَيْكَ
كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ ...)
رواه مسلم (رقم/2865)
يقول أبو العباس القرطبي رحمه الله :
"
فلو غسلت المصاحف لما انغسل من الصدور ، ولما ذهب من
الوجود ، ويشهد لذلك قوله تعالى :
(
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر/9"
انتهى.
"
المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم " (7/163)
ويقول الإمام النووي رحمه الله :
"
قوله تعالى : ( لا يغسله الماء ) معناه : محفوظ في الصدور ، لا يتطرق إليه
الذهاب ،
بل يبقى على مر الأزمان " انتهى.
"
شرح مسلم " (17/198)
وننبه هنا إلى أن هذه الأدلة إنما هي بحسب سؤال السائل ، أدلة من القرآن
الكريم على
تكفل الله بحفظه ، وأما الأدلة الواقعية على صدق هذا الخبر فلها محل آخر من
البحث
والجواب .
كما
ننبه إلى أن معظم هذه الأدلة إنما تصدق في القرآن الكريم إذا استحضرنا أنه
كتاب
منزل إلى الناس كافة ، وأنه يحوي تشريعا صالحا لكل زمان ومكان ، بخلاف
الكتب التي
أنزلت على الأنبياء من قبل .
والله أعلم .